58 عاما على نكبة فلسطين

ماجد كيالي

ظلّ التأريخ للنكبة عند الفلسطينيين، زمناً مسكوناً بالمأساة، والقلق إزاء الحاضر، والسؤال عن معنى الهوية والوجود والمستقبل. ومع ذلك فإن التأريخ للنكبة لم يسلم، في غالبيته، من فعل الحجب والسكوت والتناسي والمجاملة، في محاولة للتعايش مع الواقع السائد، أو التحايل عليه، أو العيش في نوع من الأمل.

النتيجة أن فعل الحجب والسكوت والتناسي والمجاملة أدّى إلى نشوء وعي سياسي قاصر، كونه أدى إلى لجم الوعي الشامل واللازم بالنكبة، لإدراك مكوناتها الحقيقية، ووضع أسباب تجاوزها، أو نقضها.

في الحقيقة فقد حجب التفكير بالنكبة عديد من الوقائع، أكثر بكثير مما أظهر منها، فحكى جانبا من الرواية، وسكت عن جانب آخر منها، لأغراض متباينة. هكذا أحيل فعل النكبة، على الأغلب، إلى عملية مؤامرة على العرب، أو إلى جهود أطراف خارجية، أو إلى فرص أضاعها العرب (وضمنهم الفلسطينيون)، سواء في تعاطيهم مع القوى النافذة على الصعيد الدولي(في حينها)، أو في عدم أخذهم ما يمكن أخذه من جزء من وطنهم! ويجري التدليل على ذلك برفض قرار التقسيم، الذي بات العرب، والفلسطينيون خاصة، يقبلون اليوم بما هو أقل منه بكثير، وبعد أكثر من خمسين عاما من الصراع الطويل والمرير ضد المشروع الصهيوني!

 المهم أن التفكير في النكبة، والتأريخ لها، استغرق، طوال العقود الماضية، في عرض المؤامرات على العرب، ودور العامل الخارجي، والفرص الضائعة، بدلاً من تفحّص تاريخ النكبة، بمعناها الحقيقي والشامل، في العوامل الذاتية، الداخلية، التي أدّت إلى حصولها، ثم إلى استفحالها واستمرارها، والتي من ضمنها:

 تخلف البني والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، في المنطقة العربية، وضعف البني المؤسساتية، وغياب أو تغييب دور القوى الاجتماعية، في مواجهة مجتمع حديث، يعتبر جزءا من الغرب وامتداداً له، بكل ما يعنيه ذلك، وبما يمثله من قيمة مضافة بالنسبة إلى إسرائيل.

بالنسبة لحديث المؤامرة فيمكن كشف ريائه في كثرة الوثائق والوقائع التي تؤكد معرفة قادة العام العربي، والفلسطيني، بمخططات بريطانيا والحركة الصهيونية، بدءا من نشاطات هرتزل والمؤتمرات الصهيونية، مرورا بوعد بلفور ودعم الدولة المنتدبة (بريطانيا) للنشاط الصهيوني، وصولا إلى هجرة اليهود وتزايد النشاط الاستيطاني في فلسطين، والذي تجسّد في مؤسّسات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، ما يفضح ضعف الاستعداد العربي لمواجهة هذه المخططات، على مختلف المستويات، ومن ضمنها المستويين السياسي والعسكري.

وبالنسبة لمزاعم الفرص “الضائعة”ØŒ فهي لا تصمد أمام أي تفحّص منطقي، وواقعي للأحداث، ولموازين القوى وللفاعلين السياسيين، آنذاك، إذ لم يكن بالإمكان تصور قبول الفلسطينيين، والعرب عموما، آنذاك، باقتطاع جزءٍ كبير من وطنهم لإقامة دولة غريبة عليه، لمجموعة من المستوطنين، طوعا وعن طيبة خاطر، بخاصة وإنهم لم يكونوا يملكون التحكّم بالسيادة على أرضهم، بسبب الانتداب البريطاني، أو بسبب هيمنة النظام الرسمي العربي على قراراتهم. بالمحصلة، وبغض النظر عما أراده الفلسطينيون والعرب، فقد تم حسم المسألة بقوة الدولة المنتدبة (بريطانيا)ØŒ وبالتعاطف الدولي مع اليهود، ومع حركتهم الصهيونية، وبفضل تنظيم المستوطنين لأوضاعهم، واستخدامهم القوة العسكرية، وإمعانهم في ممارسة المجازر والأعمال الإرهابية، ضد الفلسطينيين العزل، وهو ما جعلهم يسيطرون على 77% من الأراضي الفلسطينية، في حين أنهم لم يتمكنوا طوال نصف قرن، من النشاط الاستيطاني وحكومة الانتداب، من السيطرة إلا على حوالي 7% من هذه الأراضي.

هكذا فإن مراجعة متأنّية للفكر السياسي العربي (والفلسطيني ضمنه) الذي تصدّى لموضوع النكبة يكشف كم هي الحاجة ملحة لمشروع فكري جديد لإعادة قراءة النكبة، ونقد الفكر الرسمي، والأساطير السائدة حولها. وبالطبع فإن هذه المراجعة لا ينبغي أن تتأسّس على وعي الماضي أو تفسيره بمفاهيم الحاضر، كما لا يجوز التفكير عكس ذلك، بالتعامل مع متطلبات الحاضر باعتبارها دعوة لاستحضار الماضي.

أما المسكوت عنه، أو المحجوب، في رواية النكبة، واستمرارها، واستفحالها، فيتمثل بردّة الفعل العربية الرسمية إزاءها؛ إذا أردنا تجاوز حال المجتمعات العربية المغلوبة على أمرها.

وما يلفت الانتباه، بهذا الخصوص، أن الرواية الرسمية العربية حول النكبة، دعّمت الرواية الرسمية الإسرائيلية، التي تحدثت عن هجوم جيوش سبع دول عربية، على الدولة الإسرائيلية الناشئة، وكيف أن هذه الدولة الصغيرة تغلّبت على الجيوش العربية الكبيرة والكثيرة! ولكن أية جيوش هذه، والدول العربية خارجة للتو من عباءة أنظمة الانتداب، لا سيما وأن عدد أفراد هذه الجيوش بالكاد بلغ بضعة عشرات الألوف، وهي بكل الأحوال لم تزد عن عدد أفراد الجيش الإسرائيلي، محملة بأسلحة فاسدة، كانت عبئا عليها، هذا فضلا عن تشتت قياداتها وارتهان إرادتها. وهذه الجيوش للآسف ليس أنها لم تستطع التغلب على “العصابات الصهيونية”ØŒ بل أنها لم تستطع الحفاظ على المناطق التي حدّدت للعرب في قرار التقسيم.

أيضا ثمة مسؤولية للنظام العربي (آنذاك) عن هجرة يهود البلدان العربية إلى إسرائيل، بخاصة من العراق واليمن وشمالي أفريقيا، فهذه الهجرة ضاعفت عدد اليهود في إسرائيل، في السنوات الخمس الأولى لقيامها، وأمدّتها بالقوة البشرية اللازمة لمجمل أنشطتها. ومعروف أن يهود هذه البلدان لم يؤيّدوا الحركة الصهيونية، ولم يستجيبوا لدعواتها لهم للهجرة إلى فلسطين، قبل 1984، أي قبل النكبة وقيام دولة إسرائيل.

في مقابل ذلك  فقد استقبل النظام العربي الفلسطينيين المشردين، باعتبارهم لاجئين غرباء، إذ باتوا موضوعا ديمغرافيا وأمنيا، ووسيلة للتوظيف السياسي القطري والضيق، بالرغم عنهم.

 كذلك لم يتم البحث في أسباب عدم تمثّل الفلسطينيين في المجتمعات العربية، وكأن المعاملة التمييزية لهم تثبّت وطنيتهم! كما تم تناسي مسؤولية النظام العربي السائد، في حينه، عن إجهاض المحاولة الكيانية الأولى للفلسطينيين، والمتمثلة بقيام “حكومة عموم فلسطين (1948).      ولم يفسر أحد سبب تعطّش الفلسطينيين إلى كيان وإلى جواز سفر، كما لم يفسر سبب اصطدام البعد التحرري الفلسطيني بالنظام الرسمي العربي، أو الميل الرسمي لتدجين الحالة الفلسطينية وعلاقة ذلك  بعملية التسوية. وفي الغالب مرت هذه التطورات والمواقف من دون أي تفحص أو تفسير جدي.

 هكذا فإن الفلسطينيين بحاجة ماسة للتأسيس لوعي جديد وشامل، للنكبة، لأسبابها ولنتائجها، كما لكيفية تجاوزها. وعيا يمكنهم من العودة للانخراط في التاريخ الواقعي. وعيا لا يتأسس على النسيان، كما ولا على إعادة إنتاج الذاكرة، إلا بما يؤدي إلى تجاوزها بنقدها والبناء عليها، بما يخدم الوحدة المجتمعية للفلسطينيين وتعزيز هويتهم، في إطار وعيهم التاريخي لانتمائهم العربي، في مواجهة سياسات التغييب والإلغاء الإسرائيلية. وعيا يتأسس على معادلات الحاضر، للانتقال من حيز الذاكرة إلى الحيز المعاش، ومن نطاق الحلم إلى نطاق الواقع. ومن مفاهيم الأيدلوجيات إلى مفاهيم الاستراتيجيات؛ بفهم إيجابي للسياسات ولموازين القوى وللواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بخاصة في هذا الزمن زمن الدولة القطرية، والمصالح والنسبيات.

Check Also

Leader denies reports Hamas wants PLO alternative

CAIRO – A Hamas leader on Sunday played down reports that his group wanted to …