عراف الكرمل

171.jpgحنا ابو حنا , “عرّاف الكرمل” لاجم الجحافل ومائيسترو جوقة البلابل .

قبل ان تصير أم الفحم ملجأً لعائلتنا , بعد النكبة, شكّل بيتها لها هناك مقر “عِزبة” . إليه تلوذ, تاركةً مسكنها في اللجون,  شهراً في السنة للإستجمام والراحة والتوحد. وبعد النكبة , محافظةً على هذا التقليد, كان قد بنى ابي مع أخيه :” أبوي محمد” عزبة في عين الزيتونة. كان ربيع أحد سنوات النصف ألأول من ستينات القرن الفائت , قبل دخولي Ù„” البستان” حينما أعتزلت عائلتنا في ذلك البيت الوحيد المبني بالحجر ألأبيض الخفيف على سفوح عين الزيتونة المُطلة على شارع وادي عارة.
عصر كل يوم كنت أتوجه الى زيتونة رومية Ù„ “أُقيِل” على ” جنابية” , تفرشها لي أمي , رحمها ألله, بعد ان تذكرني بأن ” أبوي محمد ” قد لجم الحيوانات* والزواحف ,داخل فوهة تكونت في جذع الشجرة على شكل خيمة . أراقب أغصان الزيتون , اتأمل أوراقها , أصغي لحفيفها. تتحرك عيوني مع تحليق العصافير , أمتع نظري بزركشة الفراشات والأزهار وأنفاسي بعبيقها وأصغي طويلاً لنبض المحيط وأنغامة فيأخذني السهاد الى تحليق فردوسي أمين.تعلو سفوح عين الزيتونة هضاب الروحة ذات الإنحناءات اللينة والرشيقة الباهتة بتحية تواضع لهيبة قمة الكرمل.
“عرّاف الكرمل” أحد الكتب الذي وصلني في رزمة, صباح هذا ” الجمعة الفضيلة” . كان قد دلف البوسطجي الى مكتبي منتشياً , إدراكاً منه بشغفي بتسلم الكتب, معلناً عن وصول طرد ثقافي قادم من حيفا. على الغلاف وقد مزقته وسائل النقل وقع نظري على المرسل , بخط جميل وأنيق , كمن يقدس الأحرف والكلمات, قرأت : حنا أبو حنا.
يطابق تعارفي على الشاعر , في النصف الثاني للسبعينيات, عدة حالات تقديم لشخصيات رفيعة من علماء , فنانين وشعراء. للوهلة الأولى , لأسباب غير مجدٍ ذكرها, تحدث مشّادة كلامية , مُشاكسة أو نقاش حاد بيننا , سرعان ما تفضي الى المصالحة وإرساء السلام وعقد الصداقة الحميمية.  تكرر هذا الطقس مع بروفوسور تشيزاري دال بالو مدير القسم ألأول للأمراض الداخلية , ومن ثم مع بروفوسور لويجي بافان مدير القسم ألأول للطب النفسي في كلية الطب في جامعة بادوفا حيث تخرجت . وأذكر نفس الدينامية مع المسؤولة عن الجانب الفني أولغا روساكوفا  في المدرسة الحزبية , زمن الشيوعية, في موسكو للحزب الشيوعي السوفييتي وحلّت عليّ ضيفةً في إيطاليا. لا بل لقائي الأول مع ميلينا ميلاني وماريا لويزا سباتسياني , شاعرتان إيطاليتان مخضرمتان أتصف بنفس ألأسلوب ومعهما ما زلت أنتج أدباً. كذلك ألأمر مع الرسام إرنيستو تريكاني والذي زيّن منشوري ” شظايا الروح” برسوماته.
كان حنا أبو حنا يدير الكلية العربية ألأرثوذوكسية , حيث درستُ. وهنا أراه جديراً إقتباس فقرة من فصل عنه ,  ونشرته في كتابي بالإيطالية: ” إسلامي , يوميات حربية لشاعر فلسطيني يعيش في إيطاليا, منشورات سباتسيو كولتورا, كورتينا- إيطاليا , 2002″.
وترجع الكتابه إلي يوم 29 أكتوبر 2001         
…”يوماً ما، في بداية السنة الدراسية، حنا أبو حنا، والذي كان يُدرّسنا الأدب الإغريقي، أعلن عن امتحان فجائي. وحينما كنّا منشغلين بالإجابة على الورق، كان المدير يطوف بين صفوف المقاعد. يتوقف بجانب أحدها وينظر إلى ما يكتبه التلميذ. لم يكن يعرف أسماء كل الطلاب، ولا اسمي.
عندما كنت منهمكاً‌ بالكتابة، كان توقّف إلى جانب مقعدي، نظر طويلاً لما أكتب.
بعد أن انتهى وقت الامتحان وسلّمْنا له الأوراق، لفظ اسمي بصوت حازم ودعاني للإجابة حول موضوع أدبي. بدأت الكلام، لكنه، بشكل فجائي، قاطعني بقسوة متهماً إياي بأني لست أهلاً للإجابة، وأنه يعرف عن طريق معارف له، جيراني، أنني أذهب إلى النوم متأخراً، أدخن، وأنني أصِلُ إلى المدرسة صباحاً متأخراً.
جمّدتْني ملاحظة المدير. عصرَ ذلك اليوم كنت قلقاً كذلك الليلة اللاحقة.
صباح اليوم التالي وقبل الدخول للصف، توجّهْتُ إلى مكتبِه، وبإصرار طلبت من موظفته لقاءً طارئاً معه.
استقبلني حنا أبو حنا، كنت غاضباً وبصوت متحدّ، قلتُ:
“ليس مُنصفاً ما قلته عني أمام زملائي في الصف أمس. بادئ ذي بدء، لم تكن قد قرأت بعد أجوبتي، ومن ثمّ لم تمكّني أن أجيبك. أعترفُ بأنني أذهب إلى النوم متأخراً لكني لم أتأخر عن توقيت الصباح ولو لمرة واحدة.”
“كيف لا؟ أيام خلت، فحصت ملفك وهناك إشارات عن وصولك متأخراً صباحاً إلى المدرسة”. قال المدير.
“ليس صحيحاً” أجبت بلهجة مقتنعة.
في تلك اللحظة، طلب المدير من موظفته إحضار ملفي والذي يحوي معلومات حولي ولاحظ أنه كان أخطأ. استفسر حول رسالة وقّعها بنفسه وموجهه لأب أحد الطلاب يحمل اسمي.
“نعم، ذاك طالب آخر، يحمل الاسم نفسه لكنه من صف آخر” أجابت الموظفة.
استمر المدير بقراءة الملف. ابتسم بعد أن لاحظ علاماتي في الامتحانات.
“تكتب أيضاً الأشعار، علاماتك عالية!”
رافقني إلى صفي وبعد أن طلب إذن الدخول من مدرس الحصة الأولى، قال أمام أبناء صفي:
“أمس كنت أخطأت مع زميلكم. كان لدي عدم انتباه. ذلك الذي قلته بحقه لا يستحقه. والآن أعرف أنه أيضاً شاعر. أعتذر وسنكون أصدقاء”…
  وهناك, في اروقة الكلية, بإهتمام وحرص نظرات الأب رافقني المدير في أولى خطواتي ألأدبية.
ثلاث عقود مرت ومن جديد, كأن شيئاً لم يكن , تعتريني مشاعر طمأنينة أزلية , تزيح ركام الغربة ودخان الإكتئاب, زهو وفرح عفوي وهيبة في التحليق في ديوانه ” عرّاف الكرمل”.
غنيٌ عن التذكير بأن الكاتب يُعتبر ” حارس ذاكرة” فلسطين, ففي منشوراته كان قد وصف بلادنا  بكل حيثياتها: جغرافية , تضاريس, عادات , تقاليد , طقوس , مجتمع , طرائف, معارك, أحزاب , تاريخ , سياسة وكل تفصيل لاحظته عيناه الثاقبتين سجّله في ذهنه ووثقه, طرزه وأشهره علماً مرفرفاً مجلجلاً للتاريخ , للأجيال القادمة وأمام من قصدوا شرخ ودفن هذا الوطن.
” عرّاف الكرمل” تراتيل هادئة يتلوها بصوت هادئ , رخيم وواثق كالداعي للصلاة والإبتهال.
يحلق كالنسر في أجواء البلاد ويغوص في أعماق آلام ناسها وفي مجالاته يعين أسباب فرح ومواعيد أعياد يتكرم بها على من يقرأه ويتقراه.
يخصص في ديوانه القليل من القصائد السياسية والوفير من الحب وعنفوان العشق. محاكاة الطبيعة والروح والتأملات الفلسفية , طلاسمية, سريالية وسرمدية لم أفككها بعد ,وأبيات تعمر دفءاً مُهداة لمقربيه.
“الهي كيف اقتُلِعْنا بومضةْ/كأنْ لم نكن/وكلّ الذي بنينا وكلّ الذي ورثنا/ذرته العواصف أيسر من قلع حوض حبق”. بهدوء هذه النبرة واصفاً هول الحدث تكمن صخب وزمهريرة إستعداده للمواجهة , تخفيف تداعيات الفجيعة والبحث عن مرافئ آمنة.
يأتيه الموت بذاته , فهو كشعبه غير قابل للفناء ,لإسداء النصيحة ونشله من الذعر, يقول له: ” عش ما يتاح قبيل الرّسوّ على ساحلي/تمتع بنسمة عطر على جفن زهرة”.
حتى لو ذهبنا للموت طوعياً فهذا سيلفظنا للحياة لجدارتنا بها لأنه “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” ولنا الكثير ما نفعل ! لم يفهمها بعد المتمترسون على سدة الحكم في بعض العواصم. 
لكنه أيضاً بسرعة البرق يُعيِن في رحاب ذهنه وروحه الفلسطينية دروساً ومحطات وشلالات من المفاتن يُسمِي بها وجوده وأبناء شعبه ويدعو لكبرياء الخيال والحلم : ” تعلمتَ كيف تناور تصطاد بين الدموع فراشةْ/ وكيف يراود الحلم عبر السراب/ فتحيا الثوانيَ خلف الغيوم/ تطرّز بالأمنيات وشاح السَحَر” .
يجد في وشاح السحر , ظلال القمر, الريحان , الياسمين, زقزقة العصافير , خرير الأنهار , هدير ألأمواج وما تنعم بها ألأرض والسماء من لواعج للنعيم المجاني  مرفأ سلامة كي يشيح عن أنظاره وذهنه صور طفرات وجودية لخصمِهِ لما فيها من العبث ومعضلة التعامل والتفسير : ” غابةٌ من حديد/وأفعي تسخّن في الشمس سُمّاً ونابْ/جَحفلُ الخُوذ الحاشدةْ/والقلوب التي صدئتْ/ والعيون التي رحلت/ من وجوه الجنود الى فوهات البنادقْ”.
ِشلّخوا فلسطين وأهلها ليستنبطوا من أحشائها الحليب والعسل ولينعموا بسلام . وحنا أبو حنا يشير ما هو واضح للعيان : كيف يمكن تذوق الحليب والعسل والمقدرة على الرؤية والإحساس عند رحيل العيون من جحراتها والتمترس على فوهة البنادق, ليصير ” لحمُنا على حبل الرصاصْ/خبزنا من من عجين الدما والتراب”.
وهنا ترسخ تراجدية الخصم والذي لم يفهم بعد انه قد فقد من أنعم الله به عليه من قدرة في الإحساس وقد أُضطر لتشويه كيانه, لاحقاً أوهاماً قوقعْها في ذهنه رواد اللاسامية, بناة المحارق ومنفذي البوغروم ولا يفقه ان تنكيلاته في تضاريس الوطن وجوابي روح الناس ليس إلاّ تنفيذاً لنداءات رهيبة لاواعية دمغهُ بها سياسيو القارة المشيخة وحولوه الى شبه روبوت بقلب صدئ.
“عرّاف الكرمل” يرفض قطعياً تشويه ذهنه الحر منذ فجر التاريخ والتعاطي غير المشروط  مع  عقلية وقد أدرك, منذ اللحظة ألأولى , انها مهزومة. يشيح عن مجال رؤيته ويُسقط من آفاقه تفاصيل نشاز من أنتهك قدرته على الإحساس لشرخ وطننا ليحقق سلاماً جاهلاً أبجدياته .
 يحرس مملكة الشعر من دنس الإشتياط والعنتريات الجوفاء فينطلق صوته الهادئ المنضوي على زوابع الغضب النبيل محافظاً على قدرته في التحليق المنتشي الدائم. وإذ في تحليقه الهانئ يستذكر نفسه” خلفاً تلفتّ /أين العطر والألق/أخترتَ دربك/أم سالت بك الطرقُ؟/عرائس السحر الشهباء دانيةٌ/والأفق بالصبوات البكر يأتلقُ/عرائش الزهر,حضن الطيب, حانيةٌ/ وموسم الحب تياهٌ به العبقُ/وللمواعيد خلف الغيم سقسقةٌ/ وللجناحين توقٌ جامح نزقُ/ …”
يدعو الى الحب ,وهو وفير في ديوانه, بكل أنواعه: العذري , ألأخوي , البرئ وإلى عنفوان ذلك الذي يثير شهوة الجسد والصيرورة. 
بعد ان عيّن الشاعر وشخّص ثغرات خصمه ,وهذا قد جمّع بغباء في نفسِه إخفاقات الفكر والردم في صقاع الأرض وهلّ علينا ليجد أسباب سلام, بهدوء وأمانة يستفر ” أبو ألأمين ” مفاتن جنانِهِ الفلسطينيه ,يوقظها ,يداعبها , يحركها ويدحرجها أبياتاً لبني البشر يدعوهم بها للتحليق.
منذ زمن ليس بعيد رحلت والدتي ولن تفرش لي ” جنابية” في جذع الزيتونة ورحل ” أبوي محمد”  لكن تراتيل “عرّاف الكرمل” ,بسحرية فريده,لجمتْ عني شرور وكآبة الغربة والخفافيش وأخذتني هناك حيث تعلمتُ لغة الزيتون لتحليق فردوسي جديد لا ينضب.
* لجم الوحوش هو طقس كان يقوم به ” أبوي محمد” ويكمن في ترتيل , لا اعرف مضمونه, على حد سكين ويكفل حشر الحيوانات واالزواحف . 
سان نازاريو –إيطاليا  27 ايار 2007

Check Also

Barack Obama did not respond to Dmitry Medvedev’s congratulation

President-elect Barack Obama spoke by telephone with the leaders of six more US allies to …